بينما إقتراب نهاية عام 2011، الذي كان عام ذعر للأسواق المالية العالمية،وهددت فيه أمريكا بشن حرب على إيران التي تعوم على بحيرة من النفط بتهمة التلاعب خلسة بالطاقة النووية ، جاء زعيم التكنولوجيا في أمريكا، و أغنى رجل في العالم سابقا، بيل غيتس الى الصين للتباحث في إمكانيات التعاون في الطاقة النووية وإعلان نيته القيام بإستثمارات ضخمة في مجال تطوير
الجيل الجديد من الكهرباء النووية. بعد أن أسس في عام 2006 شركة تارة الامريكية للطاقة (Terra Power)، لتطوير الجيل الرابع من الكهرباء النووية.
يقول بيل غيتس "إذا تركوني أختار أمنية خلال 50 عاما القادمة، فحتما سوف أختار الطافة النووية"، "نحن سنخترع تكنولوجيا تمكننا من تخفيض أسعار الطاقة إلى النصف، وتفرز صفر إنبعاثات". لكن ماهذه التكنولوجيا يا ترى؟ إنها تكنولوجيا الطاقة النووية. ويواصل غيتس حديثه، "إن روعة الطاقة النووية تكمن في أن القوة الكامنة في ذرة واحدة من اليورانيوم تمثل مئات آلاف أضعاف القوة الكامنة في أصناف الطاقة الاخرى، و إذا إستطعنا أن نتجاوز مشكلة الإشعاعات فإنها ستصبح طاقة لامثيل لها."
هذا الحديث لو أسمعناه للوزير الأول الياباني الأسبق ناوتوكان فمؤكد سوف يحمر وجهه.عند إندلاع حادثة المفاعل النووي الياباني في بداية العام الحالي، و تحت الضغوط الإعلامية أضطر المسؤولين الحكوميين في اليابان للإعلان عن إعتزامهم إزالة "المحطة النووية" بينما تعتمد اليابان على الطاقة النووية بنسبة 30 % للتزود بالكهرباء، كما أنها في إعتماد شبه كلي على الخارج لتلبية حاجياتها من الطاقة.لذلك يعد إزالة المحطة النووية ضرب من الإنتحار بالنسبة لليابان.
غير أنه لايمكننا دائما تصديق حديث الساسة. أما بالنسبة للشركات الأمريكية و عباقرة التكنولوجيا، فإنهم لايراوغون في تحديد الوجهة المستقبلة للطاقة. إذا، لماذا جاء بيل غيتس إلى الصين تحديدا؟
في 22 من يوليو من العام الماضي، أعلنت المجموعة الصينية للطاقة النووية بأن مفاعل النيترون السريع الأول الذي طورته الصين بنفسها قد وصل إلى مراحلة النهائية. لكن مامعنى مفاعل النيترون السريع أولا؟ هو أول مفاعل في العالم من صنف الجيل الرابع لنظام الطاقة النووية المتقدمة، و دورة الإحتراق النووي التي يشكلها تمكن من رفع نسبة إستغلال الموارد النووية إلى أكثر من 60 %، كما تمكن من تخفيض نسبة النفايات النووية إلى أدنى حد لها ،وتقلل من إشعاعات النفايات النووية إلى أضعف مستوى.
من جهة أخرى، أعلن العلماء الصينيون في شهر يناير من العام الحالي عن تحقيق الصين إختراقا علميا جديدا في معالجة النفايات النووية التقليدية عبر تكنولوجيا إعادة إستغلال البلوتانيوم. هذا الإنجاز العلمي الجديد سيجعل الموارد الصينية المكتشفة من اليورانيوم كافية للإستعمال 3000 سنة عوضا عن المدة التي كانت تتراواح بين 50 و 70 عاما.
وبدون أدنى مبالغة، يمكن القول أن الإنجازين التكنولوجيين سالفي الذكر، لايقلان أهمية عن المشاريع الصناعية الكبرى التي أطلقتها الصين على غرار صناعة الطائرات الكبيرة و السكك الحديدية و مشروع "تشانغ أه" الفضائي خاصة في ظل تحكم المؤسسات المالية في أسعار النفط. إلى جانب أن الصين قد أصبحت منذ العام 2010 صاحبة قيمة الإنتاج الصناعي الأكبر في العالم، و في حين تقوم الصين بالتصنيع للعالم، يرفض العالم أن يقدم لها الكمية الكافية من الطاقة، زد على ذلك أن إرتفاع أسعار الطاقة قد نزل بهامش أرباح الصناعة الصينية المنخفضة إلى أدنى حد.
وفي مجال الطاقة الجديدة، تمكنت الصين في أقل من 5 سنوات بأن تصبح أكبر منتج للكهرباء المولدة من الطاقة الشمسية وطاقة الرياح، لكن إلى حد الآن لم تتحكم بعد في التكنولوجيا اللازمة لهذا القطاع. وفي الحقيقة، مازال نمو طاقة الرياح والطاقة الشمسية في الوقت الحالي يعتمد على الدعم الذي تقدمه الحكومة.
تعد الطاقة النووية الإتجاه الرئيسي لتطور أبحاث الطاقة. وفي الحقيقة، منذ أن دخلت البشرية مرحلة التصنيع، فإن إستعمالها للطاقة إقتصر على مرحلتين فقط، هما: مرحلة الفحم الحجري و النفط. و إذا شهدت المرحلة الصناعية الثانية الإنتقال من الفحم إلى النفط، فإن المرحلة القادمة ستشهد الإنتقال من النفط إلى الطاقة النووية. ولذلك فإن تطويرالطاقة النووية و إستغلالها على نطاق واسع، خاصة عبر تعميم إستعمال الكهرباء النووية و المحركات النووية، سيبشر بميلاد طورا صناعيا جديدا. و هذا هو المعنى الأساسي "لروعة الطاقة النووية "التي تحدث عنها بيل غيتس.
رغم أن مستوى التكنولوجيا النووية في الصين لايعد متقدما كثيرا، لكنه يشهد نموا سريعا. والآن بينما تتوزع المحطات النووية الـ 441 المنتشرة عبر العالم بين الجيل الثاني و الجيل الثاني المعدل، فإن المحطات النووية الصينية العاملة في الوقت الحالي رغم أنها لاتتعدى 14، لكنها تعد المحطات الوحيدة في العالم التي تستعد للدخول إلى الجيل الثالث من الطاقة النووية. و وفقا لبرنامح "الخماسية الثانية عشرة"، فإنه بعد إتمام مشروع محطات الكهرباء النووية الصينية من الجيل الثالث، ستصبح الصين ثالث أكبر دولة في العالم في هذا المجال. وتهدف الصين إلى توليد ما بين 70 و 80 مليون كيلوات من الكهرباء النووية بحلول عام 2020، و من المتوقع أن تصل هذه الكمية إلى 200 مليون كيلوات بحلول عام 2030 و ما بين 400 و 500 كيلوات بحلول عام 2050. حيث ستصبح الطاقة النووية أهم مصادر الطاقة في الصين.
الولايات المتحدة لديها مايكفيها من النفط، كما تستحوذ على مقدارت نفطية كبيرة داخل المناطق التي تتمتع بثروات نفطية هائلة. لذلك هي لا تقلق كثيرا بشأن الطاقة، وليس لديها دافع كبير لتطوير الطاقات الجديدة وخاصة النووية. و في هذا المجال تركز فقط على تطوير السلاح النووي والتهديد به.
وبعد معرفتنا لهذه الخلفية، نكتشف بالضبط السبب الكامن وراء لجوء بيل غيتس للتعاون مع الصين في مجال الطاقة. خاصة وأن الصين بصدد إنشاء العدد الأكبر من محطات الكهرباء النووية في العالم، وهي من المتوقع أن تكون الدولة الأقرب لإمتلاك التكنولوجيا النووية الأكثر تقدما في العالم. كما أن بيل غيتس يعلم بأن التطور التكنولوجي يتحقق في إطار التطبيق،وأن الإعتماد على النظريات وحدها لايكفي، من جانب آخر، يشير الخبراء من داخل المجال بأن الصين تتمتع بكفاءات تكنولوجية عالية، و بقدرة كبيرة على الإنشاء، هذا بالإضافة إلى حاجتها لمشاريع الكهرباء النووية وسهولة إجراءات الموافقة والمصادقة عليها، إلى جانب إنخفاض تكلفتها، وهذه كلها تعد مغريات كبيرة تسيل لعاب بيل غيتس للإستثمار في الصين.
وإذا نظرنا أبعد من ذلك فإن تكنولوجيا الجيل الرابع من المفاعلات النووية تعد ظرفية، لأنها لاتزال تندرج ضمن تكنولوجيا "الإنشطار النووي." أما التكنولوجيا التي تشرئب أعناق البشرية إليها فهي "تكنولوجيا الإنصهار النووي" ومشاريع "الشمس الإصطناعية." وفي عام 2019 ستقوم فرنسا بأول تجربة للإنصهار النووي، و إذا نجحت فإنه بإمكان البشرية أن تنشأ أول محطة كهربائية بتكنولوجيا الإنصهار النووي في عام 2040. وهذا سيكون إنجازا علميا عظيما و طويل المدى بالنسبة للبشرية. لأن هذه التكنولوجيا ترتبط إرتباطا وثيقا بـمشاريع إكتشاف القمر والفضاء. وبذلك فإنه الممكن أن تحقق الحضارة البشرية قفزة أخرى عبر هذا الإنجاز، وسيتحول الإنسان من مفهوم "إنسان الأرض" إلى "إنسان الكون". ومن هنا يمكننا معرفة أن تطوير الطاقة النووية سيحدد مستقبل البشرية.
لقد مضى عهد "الرعب النووي"، و جاء عهد "الثقة في الطاقة النووية". الصينيون من جانبهم يدركون ذلك جيدا. وقد صرح رئيس الوكالة الصينية للطاقة الذرية السابق تشانغ قوه باو، أن الصين لايمكنها مواصلة التطور دون تطوير الكهرباء النووية، وهو يتوقع بأن تعود الكهرباء النووية إلى سكة التطور في العالم بداية من العام القادم. كما أشار عضو اللجنة الوطنية الصينية للتطوير و الإصلاح جيانغ كه شيه بأن ما حدث في مفاعل فوكوشيما الياباني ليس إلا "فاصل قصير" في طريق تطور الطاقة النووية في العالم، لكن هذا الحادث نبه العالم بالمخاطر الناجمة عن الطاقة النووية، و حفز الباحثين على التركيز أكثر على السلامة النووية. لكن لا نعرف إلى حد الآن هل سينجح بيل غيتس في تحقيق حلمه في الصين. وبكل موضوعية، نستطيع القول بأن أوراق التفاوض التي بيده قليلة جدا. لكن، في كل الأحوال يجب أن ننظر إلى مجيء بيل غيتس إلى الصين على كونه أمر إيجابي، لأن هذا يعكس على الأقل بأن هناك جهات عديدة قد حاصرتها الأزمة المالية الخانقة وهي بصدد الترتيب لمكامن النمو في المستقبل.
< السابق | التالى > |
---|